في اللغة العربية
من البديهيات الثابتة التي يُجمع عليها علماءُ الفكر واللغة ، أن اللغة ليست أداة للتعبير عن الفكر وحسب ، بل اللغة هي القالب ومضمونها هو الفكر . اللغة والفكر أمر واحد ، لا بل اللغة هي موطن الوجود ومنبت الفكر . فالفكر الذي لا ينقلب كلاماً يظل كالسديم المتناثر الذي لا قوم له ، والكلام الذي لا يدل على شيء إنما هو كلام الخواء واللغو والهذيان ، وملتقى أصوات لا رجع لها ولا صدى . اللغة العربية هي فلسفة في ذاتها ، أو قل مقاربة مستقلة في الوجود ، ولا يخفى على احد أن اللغة العربية غنية بمفرداتها ، أن غنى اللغة العربية لا يقاس بعدد الألفاظ التي في معجمها كيفما كانت بل بمبلغ وفاء ألفاظها بأغراض الناطقين بها على اختلافها . وهذا يقتضي التوازن في الثروة اللغوية ، لا أن تتراكم الألفاظ في جهة وتقل أو تُفقد في جهة أخرى ولشدة ما تكاثرت الألفاظ الأجنبية في العلوم الإنسانية وفي العلوم الوضعية ، شعرت المجتمعات العربية بشيء من قصور اللغة العربية عن تناول مقتضيات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر ، (( وهنا رغب جلالة مولانا بأن نقرأ القرآن الكريم قراءة فهمية معاصرة لا أن نمر بالقراءة للآيات الكريمة على أنها واجب روحي )) أو نسمع تلك الآيات في المآتم لفترة ما ، ولا أدل على هذا من عرض كلمات الاصطلاح في اللغة العربية ، فإنك واجد فيها الكثير من المفردات الغير عربية ، وقد ينسب بعض المفكرين العرب المستغربين أسباب هذا التقهقر إلى جمود اللفظ العربي في معناه حتى لا تجده على شيء من المرونة كما يجب أن يكون ، بل تشعر أنه يتآزح على نفسه وينكمش في طبيعته ، فاللغة العربية عند نفر لغة شائخة منزوفة الطاقة والمائية ، لا تنهض بفكر ولا تجري في مضمار الحضارة إلى غايته حتى تلهثُ ويبطلُ فيها نبض الحرف ، وهي عند آخر ، لغة جاءت والصعوبة على موعد ، فالقاعدة فيها عصية لا تلين ، والقانون النحوي إدراكي مثقلٌ لا يتفق والاستجابات العفوية ، ولكن النظر المتفحص يضطر الباحث إلى الغوص في طبيعة اللسان العربي الذي يستند إليه العقل في نشاطه ، قال حكيم : أن العقل العربي عقل عرضيّ ، أذ لا يبلغ غايته القصوى إلا إذا قاد صاحبه إلى ما ينفعه . لذا يُبان كلّ ما يتحقق بالفعل هو الحق .
يذهب الفارابي إلى القول بأن الحروف والألفاظ الأول علامات لمحسوسات يمكن أن يشار إليها ولمعقولات تستند إلى محسوسات يمكن أن يشار إليها . فإن كل معقول كلي له أشخاص عير أشخاص المعقول الآخر ، تتجلى اللغة العربية لغة الحس الذي يصف ظاهر الواقع في مختلف وجوهه وألوانه . هي لغة لا تطيق التجريد في نشأتها الأولى ‘ على غرار سائر اللغات ، فمستندها الوحيد في مداناتها للكليات والتصورات المعنوية .
لذلك نعود للقول بأن الإمام عندما خطبنا بلغة القرآن الكريم يعني ذلك شمولية المعاني وليس في الأرض كلام هو أقنع ولا أنفع ولا آنق ولا ألد في الأسماع ولا أشد اتصالاً بالعقول السليمة ولا افتق للسان ولا اجود تقويماً للبيان ( ظاهراً وباطناً ) حسن م اليازجي