نزار مشرف متميز
تاريخ التسجيل : 09/09/2010
| موضوع: لا تُبكوا الأطفال "عزيز نيسين " الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 7:04 | |
| لا تُبكوا الأطفال
يقول سينمائيونا (إذا لم يبك مشاهدونا أثناء مشاهدة الفلم, فإنهم لا يسامحوننا بثمن التذكرة التي دفعوها ) وبرأي أن ذلك صحيح , فنحن نعرف الضحك جيدا, ونعرف البكاء جيدا, وليست لدينا حالة وسط بين هاتين الحالتين ى, راقبوا المارة في الطريق , سترون وجوها تفرقع بقهقهات كفرقعة الذرة المصرية وهي تشوى على النار . بالنسبة للبكاء , نحن ميالون للبكاء بطبيعتنا, فالفلم الذي لا يبكينا , والرواية التي لا تبكينا , لا يساويان عشرة قروش ... لا أحد يعرف حتى اليوم سبب هروبي من تلك المدرسة الداخلية , ففي حين كان الأطفال يجهدون لدخول تلك المدرسة , هربت أنا منها , مدرسة داخلية مجانية , تؤمن كل ألبستنا , وكل احتياجاتنا , فهل يجوز الهروب من مدرسة كهذه ؟؟ ولم أكن كسول, بل كنت مجتهدا مبرّزا في صفي . بعد مدة طويلة , لما علموا بهروبي من المدرسة صاروا في البيت يلحون عليّ بالسؤال : - لماذا هربت ؟ لم استطع ذكر سبب هروبي بأي شكل من الأشكال , أما الآن وقد مرت اثنتان وعشرون سنه فإني استطيع القول بأني هربت من المدرسة بسبب دموع العين. كنت في العاشرة من العمر عندما اجتزت القبول في تلك المدرسة وساعدني الحظ ففزت بالقرعة أيضا بعد الاختبار, ودخلت تلك المدرسة, مضت السنتان الأوليان بشكل جيد, لكن الأمور اختلطت عندما وصلت إلى الصف الخامس ... كان لدينا في ذلك الزمن مادة اسمها (المصاحبة الأخلاقية ) عبارة عن إرشادات أخلاقية وتربوية … وقد سمعنا من تلاميذ الصف الأعلى إن هذه المادة يعلمها معلم اسمه شكري بيك , وأنه أحسن رجل في الدنيا , فهو يتكلم من أعماقه بشكل مؤثر , بحيث يبكي الأطفال في كل درس ويقلب عيونهم إلى ينابيع دموع , وكان تلاميذ الصف الأعلى يؤكدون : - عندما يلقي المعلم شكري بيك درسا فانه سيجعل الصخر الذي أمامه يجهش في البكاء فكيف بالإنسان؟ استهواني شكري بيك , لان معلمينا كلهم في ذلك الزمن لا يفتئون يبكوننا , وكلما ابكونا كنا نلتصق بهم أكثر , ونتعلق بهم بكل جوارحنا . فعندما يشرح لنا معلم مادة – سيرة الأنبياء – أو وقعة كربلاء ,تعال اسمع ولا تبك ؟ تحمل إن كنت تستطيع …. وفيما دموعنا تجري سيولا يخرج معلم مادة سيرة الأنبياء من الصف , ليدخل بعده معلم مادة العلوم الدينية . وحين كان هذا يشرح لنا عذاب جهنم الذي سيلقاه العصاة , كنا نحن التلاميذ الستون وبأعمارنا بين الحادية والثانية عشرة , نختنق بالبكاء , وغالبا ما لم يكن لدي منديل , فتختلط دموعي بمخاطي . وأبكي وأنا أشرق انفي , بعده كان يدخل الصف معلم اللغة التركية .هو أيضا لم يكن ليتأخر عن أولئك في إبكائنا , فعندما يصف لنا مأساة شاعر الوطن نامق كمال في زنزانة ماغوسا , كانت الشهقات الصادرة عن ستين حنجرة صغيرة وآهاتها وتأوهاتها, تخرج من قاعة الصف لتشق عنان السماء . وفي درس الموسيقى , كنا نبكي بدموع تجري كأنهار الجنة , ونحن ننشد الأناشيد الدينية ... لم يكن لدينا درس لم نبكي فيه . ولم يكن لدينا معلم لا يبكينا , حتى في درس الرياضة , الذي كان يسمى آنذاك -التربية البدنية – كنا نبكي هل تسالوا كيف ؟ معلم الرياضة الذي لم يكن لديه ما يشرحه كان ينهال علينا بالضرب فيبكينا . كنا نقدر إمكانية أي معلم وأهميته بمدى قدرته على إبكائنا فإذا قال تلاميذ مدرسة أخرى : -عندما يشرح معلمنا درسا , تسيل الدموع من عينيك وأنت تسمعه , كنا نتباهى قائلين : - وهل هذا شيء ؟ نحن لدينا معلم , لو ترونه , انه يبكي الحجر والتراب أثناء إلقاء درسه . كانت الدموع التي تسيل من عيوننا أكثر من المياه التي نشربها ؟ لذلك استهواني شكري بيك معلم مادة – المصاحبة الأخلاقية – فبهذه الشهرة المميزة التي اكتسبها من بين كل هؤلاء المعلمين الذين يبكوننا بهذا الشكل , من سيعرف كيف سيبكينا هو يا ترى ؟ كنّا جميعا قد تجهزنا للبكاء في درس شكري بيك الذي سمعنا عنه دعابات كثيرة سابقا , سيأتي شكري بي في الحصة الرابعة, في ذلك اليوم , كانت الحصة الأولى درس تاريخ, شرح لنا معلم التاريخ شجاعة أجدادنا وبطولاتهم , بصورة لم يعد معها عدم البكاء بأيدينا, ثم كانت الحصة الثانية لدرس اللغة التركية..معلمها أيضا إبكاؤنا وهو يشرح مرثية رجائي زاده في رثاء نجاد ابن الأستاذ أكرم الذي توفي في مقتبل العمر. أما معلم الجغرافيا الذي جاء في الحصة الثالثة, فقد شرح لنا كيف كانت إمبراطوريتنا ممتدة قديما في ثلاثة أرجاء المعمورة, ثم شرح لنا ما آلت إليه وهي تتقلص شيئا فشيئا , بحيث بكينا حتى ظننا انه لم تبق في مآقينا دموع . حضر شكري بيك في الحصة الرابعة , قامة قصيرة و رأس كبير ,يلبس بدله رسمية, عبارة عن بنطال أسود مقلم بأبيض. وسترة من الجوخ الأسود , وقميص ابيض بقبة قماش وربطة عنق سوداء, وحذاء اسود لماع , ومنديل ابيض يظهر مثلثه من جيب السترة العلوي , رأسه يلمع لمعانا إذ كانت بضع شعرات معدودات طويلات ,مصففات بعناية, تغطي صلعته من الصدغ الأيسر إلى اليمين . دخل الصف بخطوات تحاذر دهس نمله , وجلس على الكرسي . ونتيجة لما سمعناه عنه مسبقا كنا على يقين بان شكري بيك سيبكينا بل كنت اعتقد بأننا سنبكي ولو بقي صامتا على كرسيه هكذا دون أن يتكلم. يا الهي .. ها قد بدأ شكري بيك بالكلام ! لا اعرف الأطفال الآخرين , أما أنا فقد تدفقت الدموع من ينابيع عيني .. كنت أظن أن ينابيع عيني قد جفت من الدروس السابقة , لكن ها أنا ذا ابكي , ولم يعد بإمكاني تمالك نفسي .وعندما خرج شكري بيك كنت نصف مغمي عليه من شدة البكاء .. شبهت شكري بيك بضيا كوك آلب , فهو رجل على شاكلته , وهو غني حسبما سمعنا عنه , كذلك هو مدير لأحد المدارس العليا , لكن لكونه أيضا قد تعلم في هذه المدرسة , وتخرج منها , فانه تبرع بإعطاء الدروس لصفوفنا الدنيا هواية وبلا مقابل , إنها هواية الإبكاء , هواية لا تشبه أي هواية أخرى . لا يمكن أن يحضر شكري بيك الدرس ولا نبكي , فهو يحكي لنا عن طفولته في المدرسة فيبكينا , يتكلم عن – الوطن – فيبكينا , يتحدث عن – الأمة – فيبكينا , يقول : أحبوا أمهاتكم , فيبكينا . أما سبب هروبي من تلك المدرسة فكانت الدموع التي ذرفناها في زلزال طوربالي حيث تهدمت البيوت , ووقع العديد من الضحايا . دخل شكري بيك غرفة الصف يومها , وكأنه تمثال متحرك لمأتم حزين , كنا حتى ذلك اليوم نحن فقط الذين نبكي , أما يومها فقد بكى شكري بيك أيضا , معنا , وحثنا على ضرورة التبرع بالمال لضحايا مأساة الزلزال , وهل يحكى بالمال ؟ كنا مستعدين للتبرع بأرواحنا . وراح يسألنا فردا فردا بكم سنتبرع ويسجل ذلك على ورقة . نحن سنجلب المال الذي وعدنا بالتبرع به , من بيوتنا عندما نذهب في عطلة نهاية الأسبوع .. نحن .. من نحن ؟؟ أطفال في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من أعمارنا , وكلنا أيتام … و من يستطيع الحصول من أمه على خمسة وعشرين قرشا في الأسبوع يعيش مرفها . كان شكري بيك يتحدث عن ضحايا الزلزال , من ماتوا, ومن بقوا تحت الأنقاض, ومن هم الآن في العراء,بصوت حزين مؤلم , والأطفال يصرخون من بين الدموع والشهقات : -ليرة؟ - ليرتان ! أنا رقيق القلب منذ خلقت , ولا يستطيع احد مجاراتي في التأثر والبكاء . وحين كان شكري بيك يقول : - فيما انتم الآن في هذا العش الدافئ فان إخوانكم في طوربالي .. كنت أختنق وأنا أشهق وأجهش بالبكاء بحيث فقدت نفسي وصرخت : - ليرتان ونصف ! … العمر أحد عشر عاما , والليرتان ونصف قبل اثنتين وثلاثين سنة تساوي خمسين ليرة الآن ولكن … هل أبالي ؟؟ ما زال شكري بيك مستمرا في شرح فاجعة الزلزال, مصورا لنا مصير الضحايا والمنكوبين في لوحات حية حزينة مؤلمة , فصرخت من بين سيل الدموع والشهقات : - ثلاث ليرات! بعدها نسيت الحساب والمساب : - أربع ليرات ..!.. أنّ شكري بيك انبنا وهو يقول : - أبناء وطننا .. فولولت ك - خمس ليرات !.. - أخواننا في الدين .. - ست ليرات أستاذ ..! كان يجب أن تروا حالة الصف يومها , بكاء ونحيب وعويل .. - سبع ليرات ! .. - أبناء بلدكم … أخوانكم … - ثماني ليرات … ولما قرع جرس انتهاء الحصة كنت اصرخ .. - عشر ليرات …!!!!!!!!!! ولو تأخر الجرس قليلا ربما كنت رفعت مقدار التبرع إلى مائة ليرة بتأثير كلام شكري بيك . لما خرجت من الصف , كانت عيناي المحمرتان من شدة البكاء تؤلماني , وكان جفناي متورمين , وكنت ما أزال أشهق بالبكاء , وأشرق بالدمع . غادرت المدرسة في أجازة نهاية ذلك الأسبوع , وجئت البيت , ولما حان وقت العودة إلى المدرسة ووضعت أمي في يدي خمسة وعشرين قرشا ,ثبت لدي رشدي, فلو قلت لها : - أمي , أعطني عشر ليرات فاني سأتبرع بها لمنكوبي الزلزال!.. فإنها ستجهش بالبكاء وهي تقول لقد جنّ ابني. ومن يومها لم أعد إلى المدرسة ثانية . ولا أحد يعرف حتى الآن سبب هروبي من المدرسة الداخلية المجانية . لا أعرف , هل ما زال هناك الآن معلمون مثل معلمينا القدامى, كل كلمة من كلماتهم قنبلة مسيلة للدموع ؟ وهل ما زال هناك الآن تلاميذ مثلنا أعماقهم خزانات دموع ؟.. | |
|
لؤي موسى مراقب عام
تاريخ التسجيل : 01/06/2010
| موضوع: رد: لا تُبكوا الأطفال "عزيز نيسين " الخميس 2 ديسمبر 2010 - 3:55 | |
| الأخ نزار شكرا كثيرا لك على إختيارك لهذا الموضوع الجميل و الحساس
أنا بدوري أقول
هل ما زال هناك الآن معلمون مثل معلمينا القدامى, كل كلمة من كلماتهم قنبلة مسيلة للدموع ؟ وهل ما زال هناك الآن تلاميذ مثلنا أعماقهم خزانات دموع ؟..
أقول يوجد لكن بنسبة ضئيلة جدا و الحمد لله
| |
|