إنّني ،يا بحر، بحر شاطئاه شاطئاكا |
الغد المجهول والأمس اللّذان اكتنفاكا |
وكلانا قطرة ، يا بحر، في هذا وذاك |
لا تسلني ما غد، ما أمس؟.. إني... |
لست أدري! |
الدير: |
قيل لي في الدّير قوم أدركوا سرّ الحياة |
غير أنّي لم أجد غير عقول آسنات |
وقلوب بليت فيها المنى فهي رفات |
ما أنا أعمى فهل غيري أعمى؟.. |
لست أدري! |
قيل أدرى النّاس بالأسرار سكّان الصوامع |
قلت إن صحّ الذي قالوا فإن السرّ شائع |
عجبا كيف ترى الشّمس عيون في البراقع |
والتي لم تتبرقع لا تراها؟.. |
لست أدري! |
إن تك العزلة نسكا وتقى فالذّئب راهب |
وعرين اللّيث دير حبّه فرض وواجب |
ليت شعري أيميت النّسك أم يحيي المواهب |
كيف يمحو النّسك إثما وهو إثم؟.. |
لست أدري! |
أنني أبصرت فيّ الدّير ورودا في سياج |
قنعت بعد النّدى الطّاهر بالماء الأجاج |
حولها النّور الذي يحي ، وترضى بالديّاجي |
أمن الحكمة قتل القلب صبرا؟.. |
لست أدري! |
قد دخلت الدّير عند الفجر كالفجر الطّروب |
وتركت الدّير عند اللّيل كاللّيل الغضوب |
كان في نفسي كرب، صار في نفسي كروب |
أمن الدّير أم اللّيل اكتئابي؟ |
لست أدري! |
قد دخلت الدّير استنطق فيه الناسكينا |
فإذا القوم من الحيرة مثلي باهتونا |
غلب اليأس عليهم ، فهم مستسلمونا |
وإذا بالباب مكتوب عليه... |
لست أدري! |
عجبا للنّاسك القانت وهو اللّوذعي |
هجر النّاس وفيهم كلّ حسن المبدع |
وغدا يبحث عنه المكان البلقع |
أرأى في القفر ماء أم سرابا؟.. |
لست أدري! |
كم تمارى ، أيّها النّاسك، في الحق الصّريح |
لو أراد اللّه أن لا تعشق الشّيء المليح |
كان إذ سوّاك بلا عقل وروح |
فالّذي تفعل إثم ... قال إني ... |
لست أدري! |
أيّها الهارب إنّ العار في هذا الفرار |
لا صلاح في الّذي تفعل حتّى للقفار |
أنت جان أيّ جان ، قاتل في غير ثار |
أفيرضى اللّه عن هذا ويعفو ؟.. |
لست أدري! |
بين المقابر: |
ولقد قلت لنفسي، وأنا بين المقابر |
هل رأيت الأمن والرّاحة إلاّ في الحفائر؟ |
فأشارت : فإذا للدّود عيث في المحاجر |
ثم قالت :أيّها السّائل إني... |
لست أدري! |
أنظري كيف تساوى الكلّ في هذا المكان |
وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصّولجان |
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان |
أفبذا منتهى العدل؟ فقالت ... |
لست أدري! |
إنّ يك الموت قصاصا، أيّ ذنب للطّهاره |
وإذا كان ثوابا، أيّ فضل للدعاره |
وإذا كان يوما وما فيه جزاء أو جساره |
فلم الأسماء إثم أو صلاح؟.. |
لست أدري! |
أيّها القبر تكلّم، واخبرني يا رمام |
هل طوى أحلامك الموت وهل مات الغرام |
من هو المائت من عام ومن مليون عام |
أبصير الوقت في الأرماس محوا؟.. |
لست أدري! |
إن يك الموت رقادا بعده صحو طويل |
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل؟ |
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرّحيل؟ |
ومتى ينكشف السّرّ فيدري؟.. |
لست أدري! |
إن يك الموت هجوعا يملأ النّفس سلاما |
وانعتاقا لا اعتقالا وابتداء لا ختاما |
فلماذا أعشق النّوم ولا أهوى الحماما |
ولماذا تجزع الأرواح منه؟.. |
لست أدري! |
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور |
فحياة فخلود أم فتاء ودثور |
أكلام النّاس صدق أم كلام الناس زور |
أصحيح أنّ بعض الناس يدري؟.. |
لست أدري! |
إن أكن أبعث بعد الموت جثمانا وعقلا |
أترى أبعث بعضا أم ترى أبعث كلاّ |
أترى أبعث طفلا أم ترى أبعث كهلا |
ثمّ هل أعرف بعد الموت ذاتي؟.. |
لست أدري! |
يا صديقي، لا تعللّني بتمزيق السّتور |
بعدما أقضي فعقلي لا يبالي بالقشور |
إن أكن في حالة الإدراك لا أدري مصيري |
كيف أدري بعدما أفقد رشدي... |
لست أدري! |
القصر والكوخ: |
ولقد أبصرت قصرا شاهقا عالي القباب |
قلت ما شادك من شادك إلاّ للخراب |
أنت جزء منه لكن لست تدري كيف غاب |
وهو لا يعلم ما تحوي؛ أيدري؟.. |
لست أدري! |
يا مثالا كان وهما قبلما شاء البناة |
أنت فكر من دماغ غيّبته الظلمات |
أنت أمنية قلب أكلته الحشرات |
أنت بانيك الّذي شادك لا ... لا... |
لست أدري! |
كم قصور خالها الباني ستبقى وتدوم |
ثابتات كالرّواسي خالدات كالنّجوم |
سحب الدّهر عليها ذيله فهي رسوم |
مالنا نبني وما نبني لهدم؟.. |
لست أدري! |
لم أجد في القصر شيئا ليس في الكوخ المهين |
أنا في هذا وهذا عبد شك ويقين |
وسجين الخالدين اللّيل والصّبح المبين |
هل أنا في القصر أم في الكوخ أرقى؟ |
لست أدري! |
ليس في الكوخ ولا في القصر من نفسي مهرب |
أنّني أرجو وأخشى، إنّني أرضى وأغضب |
كان ثوبي من حرير مذهب أو كان قنّب |
فلماذا يتمنّى الثوب عاري؟.. |
لست أدري! |