كثير هم الشعراء الذين كانت أشعارهم وقصائدهم سبباً في مقتلهم، فهل من الممكن أن يكون الشعر سبباً في مقتل صاحبه؟، هذا هو ما حدث فعلا مع الكثيرين من الشعراء وكان من هؤلاء الحسين بن محمد المنبجي المعروف بدوقلة هذا الشاعر الذي نظم قصيدته والتي تعد القصيدة الوحيدة أو "القصيدة اليتيمة" كما أطلق عليها بعد ذلك، ولكن لا يوجد تأكيد على كون هذه القصيدة تنسب له أم لا، هذا بالإضافة لتعدد القصص التي تروي المناسبة التي قيلت فيها.
وتقول إحدى الروايات إن هذه القصة ترجع إلى زمان بعيد حيث كانت هناك ملكة تدعى دعد كانت ملكة لليمن قد أخذت على نفسها عهدا بألا تتزوج إلا بمن يمتلك من الفصاحة والبلاغة ما يكفي لأن يغلبها به، وعرفت هذه الملكة بجمالها الأخاذ الساحر مما جعل الشعراء يتبارون في نظم وعرض مالديهم من قصائد عليها، ولكن لم تنال أي من قصائدهم إعجابها.
كان دوقلة هو أحد الشعراء الذين سمعوا بخبر الملكة وما تريده من مواصفات الشخص الذي سوف يصبح زوجاً لها، وكما سمع عن هذا سمع أيضاً عن جمال الملكة الباهر فانطلق ينظم الشعر فأبدع واحدة من أروع القصائد والتي مازالت تحتل مكاناً متميزاً بين قصائد الشعراء، وبينما هو في طريقه إلى الملكة ليعرض عليها قصيدته مر بأحد الأحياء فقام واحداً من أهل الحي باستضافته وبينما دوقلة عنده أخذ يسرد عليه قصيدته هذه القصيدة التي أعجبت الرجل كثيراً ولاقت في نفسه قبولاً واسعاً، وشعر دوقلة بمدى الإعجاب الذي جرى في نفس الرجل كما شعر بالغدر الذي قد يقع به فقام بإلحاق قصيدته ببيتين في أخرها أملاً في ذكاء دعد، أن تكتشف الغدر الذي سيلحق به.
وبالفعل كما توقع دوقلة قام الرجل بقتله وحفظ القصيدة لكي يلقيها هو على مسامع دعد، وعندما ذهب الرجل لدعد لكي يلقي عليها قصيدة دوقلة سألته عن الديار الذي أقبل منها قال إنه من العراق فلما سمعت القصيدة وجدت بها بيتاً يدل أن صاحبها من "تهامة" وهو البيت الذي يقول فيه دوقلة :
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
وما أن ختم القصيدة بالبيتين الذين كتبهما دوقلة هبت دعد من مقعدها صارخة بقومها : أقتلوا قاتل زوجي.
وهكذا فمن قتل يقتل فعلى الرغم من أن هذه القصيدة كانت سبباً في قتل صاحبها إلا أن الذي غدر به قتل هو الأخر، وبقيت هذه القصيدة بعد ذلك باقية، ويرجع البعض سبب تسميتها بالقصيدة اليتيمة لعدد من الأسباب منها أنها تسببت بقتل صاحبها ولم يعرف له من الشعر سواها، كما يقال أنها سميت بذلك لجمالها وبلاغتها وتضمنها للكثير من المعاني الرائعة في وصف المرأة، ويقال أنها سميت بهذا الاسم لكونها قصيدة لا شبيه لها لقوة معانيها وروعة تشبيهاتها.
وهذه هي القصيدة
هــل بالطلــول لــسائــل ٍ ردّ .......... أم هـــل لهـــا بـتكـلّـم ٍ عـهـدُ
دَرَس الجديدُ ، جديدُ معهدها.......... فــكأنمـــا هــي ريطــة جردُ
من طول ما تبكي الغمام على .......... عَـــرَصــاتِهــا ويقهقــه الرعدُ
وتــلُـــثُّ ســـاريـــةٌ وغاديـــةٌ .......... ويــــكرُّ نحــــسٌ خلفه سعدُ
تـــلــقـــاءَ شــاميــةٍ يمانيــة .......... لــهــا بــمــورِ تُــرابـها سَردُ
فكست بــواطنها ظواهرهـــا.......... نــــوراً كـــأن زهـــاءه بـــــرد
فوقفت أسألها ، وليس بهـــا.......... إلا الــمهـــا ونـــقــانــق رُبد
فتبادرت درر الشؤون عــلــى .......... خـدّي كـــمـا يتـــنــاثر العقد
لهفي على( دعد ) وما خلقت .......... إلا لفرط تلــهفـــي دعــدُ
بيضـاء قـــد لبس الأديم بهاء.......... الحسُن ، فهو لجِلدها جِلـــد
ويــزيـــنُ فـــوديها إذا حسرت .......... ضــافـــي الغدائر فاحمٌ جَعــد
فــالوجـه مثل الصبح مُبيضٌّ .......... والشعــر مــثــل الليل مسودُّ
ضــدّانِ لـمـا استجمعا حسُنا .......... والضــدُّ يــظهــر حُسنه الضــدُ
فكـــأنهـــا وسنَانُ إذا نظرَتْ .......... أو مـدنـف لــمَّــا يُفِـق بـــعـــد
بــفتــور عيــن ٍ مــا بهـا رمَدٌ .......... وبـــهـــا تُــداوى الأعين الرمدُ
وتــريـــك عِـــرنـيـناً به شـمــمٌ .......... وتُريكَ خــداً لــونــه الوردُ
وتــجيــل مسواك الأراك على .......... رتـل ٍ كــأن رضـــابــه الشهـد
والــصـــدر مــنهــا قــد يزينه .......... نــهــدٌ كــحــقِّ العاج إذ يبدو
والمعصمانِ ، فما يـرى لهمـا .......... مـــن نــعمــةٍ وبــضاضةٍ زنــد
ولـــهـــا بـنــان لـــو أردت له .......... عــقـــداً بــكفـــك أمكن العقد
وكـــأنمــا سُـــقيــت ترائبها .......... والنحـــرُ مـــاءَ الــورد إذ تبــدو
وبصـــدرهـــا حُقَّــان خِلْتَهُما .......... كـــافـــورتـَـيــْن علاهمــا نَـدُّ
والــبطـن مطـويّ كما طويت .......... بــيــض الرياط يصونها المُلـــدُ
وبـــخصــرها هــيـف يزيـنـه .......... فـــإذا تـــنـــوءُ يـــكــاد يــنـقـــدُّ
و ذات هـن راب مـجسـتــه .......... وعـر المسـالك حشـوه وقــد (1(
إذا طـعنت طـعنت في لبــد .......... و إذا نزعت يـكـاد يـنــسـد (2(
والتــف فخـــذاها وفوقهمـــا .......... كفـــل يجـــاذب خصرها نهـــد
فـــقيامهـــا مثنى إذا نهضت .......... مــن ثقلـــه ، وقعودهــا فـــرد
والســاقُ خـــرعبــة منعمـــة ......... عبلـــت فطوق الحجل منسدُ
والكعــب أدرم لا يــبـيــن لــه .......... حــجــمٌ ، وليــس لرأسه حـدُّ
ومشت على قدمين خُصرتـا .......... والــتــفـتــّا ، فتــكامل الــقــدُّ
مــا عابها طــول ولا قِــصَـــر .......... فـــي خلقهــا ، فقوامها قصـد
إن لم يكن وصل لــديك لـنــا .......... يشفي الصبابة ، فليكن وعْــدُ
قــد كــان أورق وصلكــم زمناً .......... فــذوى الـــوصــال وأورق الصَّدُ
لله أشــواقــي إذا نــزحـَـــتْ .......... دارٌ لــكـم ، ونأى بكـــم بُـعــــدُ
إن تـُــتْهمــي فـتهامةٌ وطني .......... أو تُــنْجــدي ، إنَّ الهوى نَـجْــــدُ
وزعمـــت أنـك تُضْمرين لـنـا .......... وُدّاً ، فــهــلاّ يــنفــع الــــــودُّ !
وإذا المحب شكـا الصدودَ ولم .......... يُـــعْطَـف عليـــه فقتلُــه عَمْدُ
نختصُّها بالود ، وهي علــى .......... مــالا نــحــب ، فــهكذا الوجـــد
أو مـــا تــرى طمــريَّ بينهما .......... رجـــل ألــــحّ بـــهــزلـــه الجـد
فالسيــف يقطــع وهو ذو صدءٍ .......... والنصــل يعلــو الهـام لا الغمــد
هــل تنفعــن السيف حليتــه .......... يـــوم الجــلاد إذا نــبــا الحـــد
ولـــقــد علمــتُ بأننـــي رجلٌ .......... فــي الصالحــاتِ أروحُ أو أغـدو
سلمٌ على الأدنى ومرحمـــةٌ .......... وعــلى الحـــوادث هــادن جَلدُ
مـتـجلبــب ثـوب العفاف وقــد .......... غــفــل الــرقيـب وأمــكـن الوِردُ
ومجانبٌ فــعـل القبيح ، وقـــد .......... وصــل الحبيب ، وساعد السعد
مــنــع المطـــامـع أن تثلّمني .......... أنــيّ لمِعــولِهــا صــفــاً صلـــدُ
فــأروحُ حُــراً مـــن مــذلّــتهــا .......... والـــحـرُّ حيـن يطيعهــا عَــبـــدُ
آلــيـــت أمـــدح مُقــرِفـــاً أبداً .......... يــبــقــى المديــح وينفد الرفدُ
هيهات ، يأبى ذاك لي سلفٌ .......... خمــدوا ولـــم يخمــد لهم مجد
فالـــجَـــدُّ كِنـــدة والبنـون همُ .......... فــزكـــا البنـــون وأنجــب الجدُّ
فــلئــن قفــوت جميــل فعلهمُ .......... بذمـيـم ِ فــعلــي ، إنني وغــدُ
أجــمــل إذا حاولــت فـي طلبٍ .......... فــالجِــدُ يغنـــي عنك لا الجَدُّ
وإذا صـــبرت لـجـهـد نـازلــةٍ .......... فـكـأنـــه مـا مـسـك الـجــهـدُ
ليــكــن لــديــكِ لسائـل ٍ فــرجٌ .......... أو لــم يكـــن.. فليحسن الـردُّ
ياليتَ شِعْري، بعد ذلكمُ ......................ومَحالُ كلِّ مُعَمَّرٍ لَحْدُ
أصَريعَ كَلْمٍ أم صَريعَ ضَنىً ...............أرْدى؟ فليسَ منَ الرّدى بُدُّ